◄طيلة العهد النبويّ، اتخذ صاحب الدعوة الإسلامية أسلوب الحوار في مخاطبة الآخرين، أفراداً، وجماعات، وديانات، ونظماً سياسية، وحضارات عالمية، ودعا إلى الاتفاق على كلمة سواء، يمكن إطلاق تعبير الوفاق عليها.
ومن يقل الوفاق يقل حُكْما استبعاد الانغلاق في الموقف والرأي والسلوك، ويقر التفتح على الآخر، والتعامل معه في احترام وتفهم متبادلين.
والهدف من الالتقاء على الكلمة الواحدة هو قيام عهد تعايش بين المتحاورين، في ظل سلام يتساكن فيه الجميع.
لذا نقول إنّ المنهج الإسلامي منهج يقوم على مسالمة الغير، والتعايش مع الآخر، ويسلك لذلك أسلوب الحوار الموضوعي المنظَّم.
أ- منهجية الحوار
ذلك أنّ هذا الحوار قد نُظَّم بعناية عن طريق الوحي في آيات قرآنية واضحة الدلالة، لضبط هدفه وطرائق استعماله، وبذلك أصبح الحوار نهجاً ربانياً، أي جزءاً من عقيدة المسلم، ومن بين ثوابتها التي لا تقبل التغيير، وأُلزِم به صاحب الرسالة أوّلاً، ثُمّ مَن تبعه من المسلمين فيما بينهم، وأصبح نهجاً ثابتاً في حوار الغير كذلك.
إنّ الحوار بمقتضى ذلك مؤسسة دينية مفروضة من الله على أهل الأرض، في شكل شعيرة مقدسة واجبة لا يجوز الإخلال بها ولا تعطيلها، مما يعني إلزامية الحوار وشموليته لكلّ تعامل مع الغير، واستمراريته في الزمان والمكان، وما يترتب على ذلك من تحريم فرض الرأي، وإملاء الإرادة في كلّ تعامل بشري.
يقول الله تعالى في (النحل/ 125) مخاطباً نبيّه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). وهو أمر موجّه إلى الرسول بالأصالة، لكنّه يشمل من عداه من المسلمين، طبقاً للقاعدة المعروفة عند مفسري القرآن وعلماء أصول الفقه، من أنّ "الأمر الذي لا يخص مَن يتوجّه إليه بالخطاب يعم غيره ممن يوجد في وضعه". والدعوة عمل النبيّ، لكنها أيضاً عمل جميع مَن تلّقاها منه من المؤمنين واقتنع بها وانتدب نفسه للقيام بها. فما يجري على الرسول يجري على غيره.
والأية تحدد شيئين:
من جهة، هدف الحوار، في الدعوة إلى سبيل الله، أي الطريق المؤدي إلى إقامة المنهج الربّاني على الأرض.
ومن جهة أخرى أسلوب الحوار، فتحصره أوّلاً في الدعوة بالحكمة التي يحمل اشتقاقها في العربية دلالات تتضافر على ما يفيد معاني التعقل، والاعتدال، وإحكام الأمور، أي إتقانها وترجمتها إلى الأحكام التي يسلِّم بها الجميع، مما يعني أن يكون الحوار موضوعياً، ومفتوحاً، وهادفاً تحقيق غاية شريفة يلتقي عليها المتحاورون.
والدعوة الإسلامية هي دعوة في سبيل الله، لا نفع فيها يستأثر به دعاتها، بل غايتها إسعاد البشر، انتشال المجتمع العالمي من الزيغ والضلال.
وتضيف الآية إلى الدعوة بالحكمة طريقة ثانية، هي الموعظة الحسنة، والموعظة حثّ على عمل الخير. ودونما حاجة إلى وصفها بنعت، فهي أسلوب مقبول لا يلقى في العادة معارضة من أطراف الحوار، لكن القرآن، وصفها بالحسنة، فزادها ضبطاً، فالموعظة يجب أن تضبطها الموضوعية وأن تتجافى الإثارة وجرح العاطفة، وأن يقدمها الواعظ في غير عنف، يتوجّه، بل برفق ولين، خاليين من الانفعال، والتشنج، وبدون تعالٍ ولا تحقير لمن إليهم بالموعظة، كما لا ينبغي أن تنطلق من أحكام مسبقة، وعندما تتوفّر جميع هذه المعطيات للموعظة، تصبح حقّاً الموعظة الحسنة.
ثم تتحدّث الآية عن الأسلوب الثالث لمنهجية الحوار الإسلامي، وذلك في مرحلة دقيقة من مراحل الحوار: ألا وهي مرحلة الجدال في شأن قبول الدعوة أو إنكارها، وسعي المحاور غير المسلم إلى تقويض حجيتها والتنقيص منها، فحينذ أبقى القرآن في هذه الحالة الحوار مفتوحاً لاتخاذ أية طريقة يراها الداعية الإسلامي أحسن الطرق الموصلة إلى بلوغ الحوار مقصده، وهو تلقّي المخاطب بالدعوة هاته الدعوة بالاقتناع والرضا، والتسليم بحجيتها بدون ضغط ولا إكراه، لم يفصِّل القرآن في ذلك طرائق أسلوب مقارعة الجدال، وإنما عمّمه بدون قيد، ليترك للفكر الإسلامي حرّيته في استنباط الطرائق الموصلة إلى الغاية، سواء أكانت هذه الطرائق خطاباً وعظياً، أو جدالاً منطقياً، أو سلوكاً حسناً يشكل قدوة للمطلوب منه استجابة الدعوة، "فكلّ ما لا يقوم الواجب إلّا به فهو واج"، كما يقول علماء أصول الفقه الإسلامي. ولكن هذا التعميم يخصصه مع ذلك ما جاء عن أسلوبي الدعوة السابقين من شروط، حتى لا تتعارض الوسائل فيما بينها. فالنصوص يقيد بعضها بعضاً.
ونجد نفس المعنى مضبوطاً في جدال أهل الكتاب، حيث جاء في سورة (العنكبوت/ 46): (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وفي سورة (النحل/ 125): (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
ب- استراتيجبة التعايش
ولقد انطلقت الدعوة المحمّدية بنداء إلهي، طلب الله فيه من رسوله أن يوجهه إلى أهل الكتاب بالالتقاء على كلمة التوحيد في مقابل الشرك، هو قوله تعالى في سورة (آل عمران/ 64): (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ).
وهذا النداء يشكل أوّل نداء عالمي للتعايش بين الديانات الموحِّدة ويمكن أن نقول عنه إنّه أوّل نداء عالمي للتعايش السلمي بين المجتمعات ولكي يقع التسليم بهذه الحقيقة التاريخية، يكون لزاماً على الدارس للمنهج الإسلامي أن يعود إلى التاريخ الذي سبق نشأة الإسلام ليلاحظ فترات الانغلاق على الدِّين الواحد، والتعصّب الأعمى له، ونبذ ما عداه. ومن بينها الفترة التي تميّزت بها القرون الأخيرة قبل ظهور الإسلام، مما يعني رفض التعايش السلمي مع عقائد الآخرين.
فقد تميّز القرن السادس الميلادي (أي قبل قرن واحد من ظهور الإسلام) باستفحال هذه الظاهرة، لما عُرف فيه من اشتداد العصبيات الدينية بين اليهودية والنصرانية على ساحة الشرق الأوسط. وذلك بعد أن تنصرت الدولة الرومانية في مطلع القرن الرابع الميلادي في عهد الأمبراطور قسطنطين، وأخذت تضطهد اليهود في فلسطين اضطهاداً بلغ أشُده في القرن السابع الذي ظهر الإسلام في أوائله.
وكان نصارى الأمبراطورية الرومانية يقومون باضطهاد اليهود، انتقاماً منهم لاضطهادهم المسيح، والحكم عليه بالقتل صلباً. لذا شاع قتل اليهود بالصلب والتحريق بالنار. وخلال أوائل القرن السادس الميلادي، ظهرت في يهود فلسطين المضطهدين من النصرانية نزعة إلى أخذ الثأر من النصرانية، شجّعهم على ذلك قيام حكم باليمن على رأسه ذونواس، الذي نبذ النصرانية واعتنق اليهودية، فحرضوه على الانتقام من نصارى اليمن الموجودين خاصّة بنجران، بتحريق كنائسهم، وجمع معتنقي النصرانية في وادٍ باليمن وصفه القرآن بالأخدود (أي الحفرة المستطيلة بين شعبتي جبل)، وتصفيتهم بإحراق أجسادهم، ودفنهم جملةً فيه. وكانت هذه أوّل محرقة جماعية، يتعرض لها معتنقو النصرانية.
وقد سجّل القرآن هذه المجزرة المَحْرَقة في سورة (البروج/ 1-9): (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). واستمر مسلسل التناحر الديني بين اليهودية والنصرانية، إذ على إثر هذه المحرقة تحركت الأمبراطورية الرومانية، وطلبت من حليفتها أمبراطورية الحبشة الانتقام من يهود اليمن، لإحراقهم نصارى نجران بالرد على صنيعهم بمثله، فالتجأت اليمن المتهوِّدة إلى أمبراطورية فارس لحمايتها.
وهكذا دخل الشرق الأوسط في حرب عالمية دينية: حرب بين الأمبراطوريتين العظمتين: الروم والفرس على ملتقى القارات الثلاث: آسيا وأوروبا وإفريقيا، دخل بها العالم في دوامة عدم الأمن والتعصّب الديني. وكان من أبرز معاركها حرب الحبشة النصرانية، حليفة الأمبراطورية الرومانية الفارسية، وهجوم الحبشة على مكّة في الحجاز. لفرض النصرانية الهجوم على مكّة هدم معبد العرب المسمّى بالكعبة، بعد ما أبداه العرب من تعاطف مع اليمن ضد هجوم الحبشة عليه، وهو الهجوم الذي أشار عليه القرآن في سورة الفيل.
وهذه وغيرها، كانت حروباً بالوساطة، لكن أخيراً جاءت المواجهة المباشرة بين الأمبراطورية الرومانية والأمبراطورية الفارسية، إثر ظهور الإسلام داخل تراب فلسطين التابع للأمبراطورية الرومانية، حيث انتصرت فارس على الروم في الجولة الأولى، ثم أعقبها انتصار الروم في بضع سنين، تماماً كما تنبأ به القرآن حيث جاء في سورة (الروم /1-4): (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ). وهذا التنبؤ الصادق بالغيب واحد من معجزات القرآن.
إنّ وضع التناحر الديني، الذي وجد عليه الرسول محمّد (ص) المنطقة عندما أمره الله بتوجيه دعوة الإسلام إلى العالمين، يسلّط الأضواء على أهمية نداء القرآن للتعايش بين الديانات في وفاق على كلمة واحدة، وتتضح معه النقلة النوعية التي قام بها الإسلام بإخراج تناحر الديانات العالمية من مأزقه، حيث دخل العالم في عهد من الوئام والتفاهم والتعايش بين العقائد يقوم على مبدأ عظيم، جاء به القرآن عندما أعلن أن (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/ 256). وعندما أمر الله نبيّه أن يقول لمن لا يستجيب لدعوته: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون/ 6).
وهذا النداء الإسلامي لم يبقَ تنظيراً، بل وجد تطبيقه في الحياة العملية من لدن الرسول نفسه، حينما قنّنه في الدستور المكتوب الذي أعلنه في المدينة (يثرب) بعد هجرته إليها، ذلك الدستور الذي سُمي بالصحيفة. والذي هو أوّل دستور مدَّون في العالم، قبل أن يقرّ الغرب منذ قرنين فقط سنّة كتابة الدساتير التي كان أوّلها دستور الولايات المتحدة الأميريكية (1787م) وتلاه الدستور الفرنسي لسنة (1791م).
وعندما جاء النبيّ مهاجراً إلى يثرب، كان اليهود في هذه المدينة وما جاورها، يفتقدون الأمن على دينهم وأنفسهم، ويتخوفون من قوات الشرك الوثنية، ويتابعون بقلق اضطهاد اليهود من لدن الأمبراطورية الرومانية، فبادر النبيّ في دستور الدولة الإسلامية، التي أعلن الرسول عن تأسيسها بيثرب في الدستور المدوّن في الصحيفة، كما أنّه بادر بمجرد وصول الإسلام إلى اليمن، إلى إعلان حمايته لنصارى نجران التي كانت نُكِبت بالمحْرَقة من لدن نظام اليمن المتهود.
وفي هذين الحدثين الكبيرين ما يؤكد عالمية الإسلام، وإقراره مبدأ التعايش السلمي بين المجتعات.
جاء دستور المدينة في شكل اتفاقية مبرمة بين فصائل سكان يثرب، على اختلاف أصولهم العرقية وعقائدهم الدينية، من أجل أن تصبح المدينة حَرَماً آمناً للتعايش السلمي، في ظل احترام جميع العقائد.
وكانت هذه الفصائل تنتظِم من القبائل العربية المتنافسة، التي لها جذور ممتدة عبر تاريخ يثرب، وخاصّة القبيلتين الكبيرتين الأوس والخزرج، اللتين خاضتا طيلة سنوات، معارك لم يسجّل فيه انتصار لإحداهما رغم وفرة الخسائر التي تكبّدتاها في الأرواح والممتلكات، وأودت بحياة مجموعة من قاداتهما.
وخلال نزاعهما، تنافس على قيادة المدينة عدد من قادتهما فلم يستتب الأمر لأي واحد منهما، فكان هو محمّداً (ص) بعد أن هاجر إلى يثرب، بناء على رغبة المسلمين المقيمين بها، الذين اعتنقوا الدين الإسلامي قبل وصول النبيّ إلى المدينة، وبعثوا إليه وفداً يعرضون عليه إيواءه والدخول في طاعته، فاجتمع النبيّ بهذا الوفد، وعرض على سكّان يثرب الالتحاق بالإسلام أوّلاً، ووعدهم بالحماية وضمان جميع مصالح يثرب عندما يحل بها قادماً من مكّة.
وهكذا، جاء دستور الصحيفة مركَّزاً على وحدة سكّان يثرب في مجموعة واحدة، ومتجاوزاً الصيغة القبلية للأوس والخزرج، إلى تأسيس وحدة بين سكّان المدينة الأصليين الذين التزموا للنبيّ بنصرته وحمايته في ديارهم، بصرف النظر عن انتمائهم إلى الأوس أو الخزرج، وأُطلِق عليهم اسم الأنصار، وبين مَن جاءوا من المسلمين إلى يثرب من مكّة من جماعات المؤمنين، وأُطلِق عليهم اسم المهاجرين. وأقام النبيّ بين الفريقين وحدة مؤاخاة تضاهي مؤاخاة القرابة والنسب. فكلّ مهاجر معيَّن أخٌ لأنصاري معيُّن، يتعاونان ويتكافلان باستثناء التوراث بينهما مع جواز المصاهرة.
وقد جاءت المادّة (40) والمادّة (48) من وثيقة الدستور تنصّان على أنّ المهاجرين والأنصار يلتزمون بمناصرة بعضهم البعض، ويقفون صفاً واحداً في وجه كلّ من يَدْهَم يثرب، فتحوّلت بذلك منافسة القبيلتين التاريخية إلى منافسة على حماية حوزة يثرب من كلّ خطر أو عدوان.
وهكذا، لم تنص وثيقة الدستور على فريقي الأوس والخزرج، بل أذابت هذا الفرق القبلي في تقسيم آخر، هو تقسيم الأنصار الذين أصبحوا يتوزعون الأوس والخزرج. وكما تجاوز الدستور الفرق القبلي، تجاوز الفرق الديني إذ تحدّث عن مجموعة "أُمّة يثرب"، مُدمجاً فيها المسلمين من المهاجرين والأنصار، ويهود المدينة وما جاورها، والمتهودين العرب، وحتى المشركين.
وداخل هذه الأُمّة الواحدة، جاءت الوثيقة تحدّد وضعية اليهود والمشركين القانوينية، فهم للمسلمين حلفاء، وتُبدَّد مخاوفهم بعد اجتماع الأوس والخزرج على كلمة الإسلام، في حين كان خلافهما قبل دستور المدينة يُستغَل من لدن المشركين واليهود معاً، لتوطيد سلطتيها في المدينة كقوتي توازن، في خضم المنافسة والتناحر القائمين بين القبيلتين العربيتين، حيث كانت كلتا القبيلتين تتحالف مع اليهود خاصّة للتغلّب على عدُوَّتها.
وقد حوّل الدستور وجهة سياسة المدينة نحو تحالف جميع المتعاقدين، ضد من يهود المدينة في وحدتها،أو يعمل لإلحاق الضرر بالمسلمين أو اليهود أو المشركين. وهو تحالف ضد قريش الوثنية، التي كانت تفكر في غزو المدينة، بعد أن أقام بها محمّد النظام الإسلامي الجديد، في ظل التعايش السلمي.
وبالنسبة لليهود فقد ربط الدستور بينهم وبين المسلمين في مواده من (26) إلى (39) بعلاقة الولاء أو الحلف. ولم يُذكَروا هم أيضاً في الدستور بقبائلهم التي كانت ثلاثة، هي قبائل قينقاع، وقُريظة، والنّضير، وإنما ذُكروا باسم اليهود، ليشمل هذا الاسم مَن لا ينتمي إلى القبائل الثلاث. ولأنّ الدستور يحرص على تجاوز الفروق القبلية إلى إقامة عهد التعايش السلمي بين الديانات، بصرف النظر عن انتمائها العرقي.
أمّا المادّة (40) فقد أعطت لليهود، بجانب استقلالهم بعقيدتهم، استقلالهم الاقتصادي، حيث نصّت على أنّهم ينفقون على أنفسهم مَثلهم في ذلك مَثل المسلمين، لكنّهم يشتركون مع المسلمين في تأدية نفقات الدفاع عن "أُمّة يثرب"، لأنّ لضمان السلم واجباته وتكاليفه.
وجاءت في الدستور مقتضيات تحدّد شروط السلام الجماعي، وإمكانية عقده من لدن المتحالفين مع أعدائهم. ووقع التنصيص في المادّة (49) على أنّ من حقّ اليهود أن يعقدوا سلاماً منفرداً إذا كان هذا لا يتعارض ومصلحة الدِّين الجديد.
وكان نصارى نجران قد بعثوا وفداً مكوّناً من ستين عضواً إلى النبيّ، بعدما استتب له الأمر في يثرب (المدينة). وبعدما تحاوروا معه مطولاً بشأن رسالته، وتفهموا مقاصدها، واطمأنوا في النهاية إلى صدقه، سألوه أن يرد على زيارتهم بإرسال مبعوث عنه إلى نجران. وقد عهد النبيّ إلى مبعوثه عمرو بن حزم بالقيام بهذه الزيارة، التي مهدت لإعطاء نبيّ الإسلام فيما بعدُ وثيقة أمان وسلام لنصارى نجران.
ونصّت هذه الوثيقة على أنّ "لنصارى نجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمّد النبيّ رسول الله على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، غائبهم، وشاهدهم، وعشيرتهم، وبِيَعهم، وكلّ ما تحت أيديهم من قليل أوكثير، لا يُغيَّر أسقف من أساقفتهم، ولا راهب من رهبانهم، ولا يُفرَض عليهم ما يذلهم ويهينهم، ولا يطأ أرضهم جيش من المسلمين، ولا يتدخل أحد في شؤونهم الداخلية. وعليهم أن يمدوا المسلمين الذين يمرون بأرضهم - عابرين أو فاتحين لأراضٍ أخرى - بالمؤونة اللازمة طيلة مدة عبورهم". وحدّدت الوثيقة هذه الضيافة في مدة عشرين يوماً على الأكثر. كما أنّ دولة الإسلام تتكفل بحمايتهم من كلّ عدوان.
وهكذا بدّد هذا الميثاق السلمي هاجس خوف النصارى من تكرار المحرقة اليهودية، التي ظلّ نصارى نجران يعانون منها طيلة سنوات خلت. وكان تعهد الإسلام بالتعايش مع النصرانية، الحلقة الثانية في مسلسل التعايش السلمي، الذي جاءت به دعوة محمّد، وهو تعايش طبق على أرض الواقع تطبيقاً عملياً نداء التعايش بين الإسلام وديانتي أهل الكاتب من اليهود والنصارى.
وقد ترتبت على هذا التعايش الثلاثي تشريعات أساسية، إذ أباح الإسلام أن يرتبط المسلم باليهود والنصارى عن طريق المصاهرة فيتزوج المسلم منهم، ويكونون أخوالاً لأبنائه، ويكون لزوجته الكتابية من الحقوق والواجبات ما للزوجة المسلمة، ويكون لها الحقّ الكامل والحرّية التامّة في البقاء على دينها، والقيام بشعائرها الدينية في بيت زوجها المسلم، والتوجه إلى بيعتها (اليهود) أو كنيستها (النصارى).
وكان من بين زوجات النبيّ يهودية، هي صفية بنت حُيَي بن أخطب، وأخرى مسيحية، هي مارية القبطية.
وقد جاء في القرآن نصّ صريح على إباحة تزوج المسلم بالكتابية، بجانب التنصيص على إباحة تزوجه بالمسلمة بشرطين بالنسبة لهما معاً، هو أن تكون الزوجة مُحصَنة أي عفيفة عن الفساد، وأن يؤدي الزوج صداقها.
جاء في سورة (المائدة / 4): (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).
وطبقاً لذلك تزوّج بعض الصحابة كتابيات، إذ تزوّج كلّ من عثمان بن عفان (الخليفة فيما بعد) وطلحة بن عبيد الله نصرانيتين، وتزوج حُذَيفة بن اليمان يهودية. ومن التشريعات المترتبة على التعايش مع أهل الكتاب حِلِّية أكل ذبائحهم وأطعمتهم. ففي نفس آية سورة المائدة جاءت بداية الحديث عما أحله الله للمسلمين كما يلي: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ). لا يُستثنى من الأطعمة إلّا ما جاء في القرآن النص على تحريمه، كأكل الميتة أو لحم الخنزير أو ما قُدم من الذبائح قُرباناً للآلهة في النظام الوثني.
وقد جاء في السنّة حديث خاطب به رسول الله أصحابه عندما وطئوا لأوّل مرة تراب الأمبراطورية الفارسية فقال: "إنّكم نزلتم بفارس، فإذا اشتريتم لحماً من يهودي أو نصراني فكلوا، وإن كان من ذبيحة مجوسي فلا تاكلوا".
وهذا يفضي بنا إلى القول إنّ وضعية أهل الكتاب في الدولة الإسلامية كانت تتميز بنظام خاص متفتح. وكانت تحمل في الإسلام على مرِّ العصور اسم وضعية أهل الذمة، والمتمتع بها اسمه الذمي، وهو مَن يضعه الله ورسوله في ذمتهما ليحمياه من كلّ عدوان، أو من تمنحه الدولة الإسلامية هذه الوضعية، حتى ينظر المجتمع الإسلامي إليه نظرة مَن يحظي بامتياز خاص، بالرغم من كونه لا يدين بالإسلام دين الدولة.
ولم يكن هذا اللفظ: (ذمة، أو ذمي) يعني تنقيصاً أو تحقيراً لهذه الوضعية، بل تمييزاً وتشريفاً لصاحبها. إنّ وضعية الذمي هي وضعية مواطن كامل المواطنة، اكتسب جنسيته من دولة الإسلام التي ينتمي إليها. له نفس حقوق المسلم وعليه نفس الواجبات، باستثناء أنّه مُعفى من الجهاد، على ديانته، ومقتضيات تشريعاته الدينية في مجال الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وإرث، لكنّه يؤدي الجزية لبيت مال المسلمين مقابل ما توفره له الدولة من خدمات مدنية.
وقد جاءت أحاديث كثيرة تحضّ على احترام ما لأهل الذمة في الإسلام من اعتبار وتقدير، وورد في بعضها التنصيص على أنّ "مَن آذى ذمياً فقد آذى الله ورسوله".
وتعايش الإسلام مع الديانات، فهي امتدادها إلى المشركين المسالمين للإسلام، مما يوضح البُعد الشامل الذي أعطاه الإسلام لإستراتيجية التعاون السلمي.
إنّ الإسلام وديانتي أهل الكتاب جاءت جميعها لمناهضة الشرك والقضاء عليه، ولكن مع ذلك، استثنى الإسلام من أهل الشرك مَن سالموه منهم، ومَن بينه وبينهم عهد وميثاق للسلم والتعايش، ويطلق عليهم اسم المعاهَدين، أو المستأمَنين، فهؤلا لا تُشَن عليهم الحرب، وتحفظ لهم المدنية والجنائية، مثلما هو مضمون للمسلمين والذميين.
وقد كان مشركو المدينة - وهم من هذا النوعِ - طرفاً أصيلاً في التعايش، الذي ضبط مقتضياته الدستور الصحيفة. ومنهم تألفت جميعاً أُمّة يثرب، نواة الأمبراطورية الإسلامية العظمى.
ج- منهج سلام
لقد رأينا كيف كان العالم إلى ظهور الإسلام، يعيش صراعات دامية بين النُّظم المتشاكسة المتقاتلة على النفوذ والسيطرة والتوسع، وكان الانتصار في الغزو المورد المادّي، الذي تسود وتعلو بامتلاكه الممالك والأمبراطوريات، وتضعف أو تنهار بفقده.
وكما كان قطع الطريق لنهب القوافل وسلبها ممتلكاتها واحداً من موارد الرزق، فقد كانت الحرب بالنسبة للأُمّم القوية وسيلة التوسع والاستغناء والاستعلاء.
وإذا كانت هذه الظاهرة ما تزال مستمرة في عالمنا بوجه سافر أو متستر، فإنّ الذي يميّز المجتمع السياسي في عالم اليوم، هو ظهور رأي عام عالمي سائد، يُدين اللجوء إلى الحرب، ووجود مقررات أُمّمية تحرّم استعمال القوّة، ومواثيق عالمية تعجّ بمبادئ السلام، لو طُبّقت بإرادة وحُسن نية لتحرّرت البشرية من الحروب والتهديد بأخطارها، هذا بينما كانت الحرب في أغلب المجتمعات معيار قوّة الأُمّم، ومظهر تفوق سيادتها، ومبعث التقدير والهيبة للمنتصرين فيها سواء كانت الحرب عادلة أو ظالمة، شرعية أو باطلة.
وخلال القرون الثلاثة الأخيرة، دأبت المجتمعات التي لا تدين بشريعة الإسلام السمحة، على تمجيد الحرب إلى حد إطلاق وصف الشريعة على الحرب الاستعمارية، بحجة أنّها حرب تمدينية لابدّ من شنّها على المتخلّفين من البشر، الذين تضطلع القوات المتمدنة بواجب غزو أراضيهم، وإخضاع رقابهم، وامتلاك أراضيهم وخيراتهم لتسخير كلّ ذلك لصالح نشر المدنية الغربية وتعميم فوائدها.
وكان منطلق الفكرة الاستعمارية عند الدول الرأسمالية، هو شعور الاستعلاء الذي جعلها تؤمن بضرورة توسيع مجال هيمنتها، وزعمها أنّ لها رسالة تمدينية يرجع إليها أمر نشرها. وساهم في ذلك منظّرون استعماريون، خاصّة في بريطانيا العظمى وفرنسا، فرسَّخوا في الرأي العام أنّ عظمة الدول تقاس بامتداد رقعة نفوذها، وإدماج أراضي الغير في فضائها القومي.
وظهر في الدول الاستعمارية قانونيون، عزّزوا بالوسائل القانونية الفكرة الاستعمارية، فأفتوا بشرعية استعمال القوّة لفرض واقع الاحتلال على الشعوب، ونادوا بمطابقة الغزو الاستعماري للقانون الدولي، ووصفوا الحرب الاستعمارية بالعادلة، وقالوا إنّ الذين يعارضونها من الشعوب الضعيفة، إنما يعترضون امتداد القِيم المادّية والروحية التي تميز الدول المتمدنة، ويمتنعون عن فتح قلوبهم للمسيحية التي تكفل لهم الخير والسعادة.
على العكس من ذلك، لا يُمكن أن يقال عن شريعة الإسلام إنّها شريعة حرب، ما دام الإسلام دين الرحمة ونبيّه نبيّ الرحمة كما جاء في القرآن الكريم. إذ الرحمة والحرب متباعدتان تباعد طرفي النقيض. إنّ الرحمة لا تسود إلّا في ظلال السلم الوارفة.
ولأنّ الإسلام دين سلام، فقد جعل من "السلام عليكم". تحية معتنقيه، يلقيها المسلم في رفق وأمان في وجه مَن يلاقيه أياً كان. وفي الحديث: "سلِّم على مَن عرفت وعلى مَن لم تعرف".
وهذه التحية التي أشاعها الإسلام وأمر بالتخلّق بها أنصاره، هي التي أصبحت بظهور الإسلام تؤذن بأنّ عهداً جديداً قد بدأ، قوامه بث الطمأنينة والأمان بين الأفراد والجماعات، وأنّ عصر التطاحن والكراهية والبغضاء والاقتتال على الأسلاب والمغانم كيفما كان نوعها، يجب أن ينتهي.
وفي هذا السياق، دعا نبيّ الرحمة والسلام الناس كافة إلى إفشاء السلام وقال: "افشوا السلام"، مما لا يعني فقط أن تشيع تحية السلام في المجتمعات، وإنما يعني بالأصالة تعميم السلم في المعمور، ونشرها عبر الأرض، وإنهاء عهد التطاحن وحل المشاكل بالحرب، لتصبح تحية الإسلام تعاملاً وسلوكاً في المجتمعات.
وقبل الإسلام كانت المجتمعات - ومن بينها المجتمع العربي - تعاني من مسلسل الحروب النظامية، مثلما كانت الحِرابة منتشرة مع ما يترتب عليها من ذيوع الفتنة وزعزعة الاستقرار، وافتقاد الأمن بجميع أنواعه، ومنها الأمن الغذائي. وقد امتن الله على قبيلة قريش بأنّه أطعمها من جوع وآمنها من خوف، وأهاب بها شكراً له على نعمته أن تعبده وتطيعه.
وكان أبرز خصال العرب في الجاهلية الشهامة، وإباء الضيم. ومحو العار، حتى لقد كان بعضهم يئد ابنته تخلصاً منها حتى لا يُسام بعارها. وكانت الحرب المظهر الذي يحرص من خلاله العربي على إبراز تحليه بهاته الخصال، حتى لقد شاع إطلاق اسم "حرب" على المواليد الذكور، ليشبّوا في سلوكهم على حبّ الحرب والتخلق بأخلاقها.
في مجتمعم كهذا لم يكن أبلغ أو أقوى تأثيراً من أن يتميّز المسلم برفع تحية "السلام عليكم"، وإشاعتها بين الناس سواءٌ أكانوا من قبيلة واحدة أم من قبائل شتّى، لا فرق بين مَن كانوا دخلوا الإسلام أو لا، تشخيصاً لمبدأ الأخوة العالمية التي جاء بها الإسلام، متجاوزاً حواجز الحدود والقوميات والأعراق والألوان، ومركّزاً المفاضلة بين الناس في معيار الفضيلة والتقوى. وكيف لا وقد جاء في القرآن أنّ السلام من أسماء الله الحسنى؟: (هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ) (الحشر/ 23).
لقد سبق الإسلام الأُمّم العالمية والمنظات الدولية إلى إعلان نداء السلام العالمي الشامل، بمُقتضى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (البقرة/ 208). ندّد القرآن الكريم بالإخلال بمبادئ السلم، واعتبر ذلك نزوعاً مشيناً إلى الشرّ، وسيراً على خطوات الشيطان، فذيل نداء الدخول في السلم العامّة بقوله: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة/ 208).
وكان نبيّ الإسلام قد جابه من خصوم الإسلام مقاومة عنيفة لدعوته السلمية هذه، وحتى عدواناً صارخاً على معتنقيه الأوّلين، ونالَ النبيّ نفسَه نصيب كبير من ذلك، بالرغم من انتمائه إلى قبيلتي قريش وبني هاشم القويتين.
وعندما استتب أمر الإسلام بيثرب بهجرة المسلمين إليها، شرع الله لنبيّه وأنصاره حقّ القتال رداً على ما لحقهم من الأذى، وما اُحبِروا عليه من هجر وطنهم مكّة، فقال الله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) (الحج / 39).
ولما كان المسلمون المدعوون لخوض معارك القتال قد تربّوا في مدرسة السلم، التي أعلن الرسول مبادئها في وجه العالم، فقد كانوا بحكم تكوينهم هذا أكثر نزوعاً إلى السلام وأشدّ عزوفاً عن الحرب، لأنّهم خرجوا من الجاهلية مجتمع القتال والحروب، فأنزل الله الآية التالية ترويضاً لنفوسهم على مواجهة القتال، الذي يتحقق به خير الأُمّة الإسلامية ونشر دعوتها التي واجهت الكيد والعرقلة والحيلولة بينها وبين إثبات الذات: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 216).
وقد تكرر استعمال لفظي القتال والجهاد في النصوص الدينية الواردة في الكتاب والسنّة، وهو التعبير الإسلامي الذي أصبح يوازي لفظ الحرب، لكنّه يعني الحرب الشرعية العادلة، المقنّنة بضوابط يتقيد بها المقاتلون المسلمون، تميز حربهم عن حرب الآخرين، حيث يتوفّر الجهاد أو القتال في الإسلام على خصوصيات منها:
- أنّ الأصل في الإسلام هو السلم العامّة، والحرب استثناء مقيد بقيود. والهدف منه دائماً التوصل إلى السلام الذي هو قاعدة المجتمع الإسلامي وركيزته.
- لا يُصار إلى القتال إلّا رداً للعدوان بمثله بدون تجاوز: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة/190). وقال سبحانه أيضاً: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة/ 194) وقال: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) (النساء/ 90).
- لا يبيح مجردُ المخالفة في الدِّين العداوةَ والبغضاء، ولا تمنع المخالفةُ مسالمةَ المخالفين والتعاون معهم على شؤون المجتمع والحياة العامّة، وبالأحرى لا تبرر الدخول في الحرب ضد المخالفين في الدِّين. وقد جاء في سورة (الممتحنة/ 8-9): (لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
- يقترن بمبدأ القتال عند الاضطرار مبدأ ترجيح خيار السلم، إذا أظهر الخصم استعداده لقبولها: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) (الأنفال/ 61).
- لا يستهدف قتال المسلمين الحصول على أسلاب وغنائم، ولا جلب منافع مادّية. فالقتال يستهدف قبل كلّ شيء نصرة العقيدة، وإعلاء كلمة الله، وتوفير المناخ السليم لنشر دعوة الإسلام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) (النساء/ 94). (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ) (الأنفال/ 67). (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (محمّد/ 4).
- كما أنّ للقتال شروطاً على المقاتل المسلم أن يتقيّد بها حتى يتميز بها قتاله عن الحرب.
- ومن خصوصيات القتال الإسلامي الحضّ الوارد في القرآن على عدم مباغتة العدو المعاهَد، وعدم أخذه على غرة. بل لابدّ إذا خشى المسلم غدره أن يخبره بعزمه على فسخ المعاهدة والدخول في الحرب. (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال/ 58)►.
المصدر: كتاب حقيقة الإسلام
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق